هادي الحسيني
فروكنر بارك
كلما مررتُ بتلك الحدائق المتوهجة بجمالها السرمدي
أشعرُ بالروح تغتسل بماء العشق الصافي
أدنو ..
تنتابني رغبة الحديث مع اناس خُلقوا من رخام
وعاشوا حياتهم على هيأة تماثيل
وحدها التماثيل تسترق السمع
في الليلِ ينتابني الحنين الى الماضي المُّر
وأبحثُ في ارشيفي عن ذكريات أوشكت تمحو من الذاكرة
أتذكر لقائي الاول قبل ثلاثة عقود
بإمرأة تشبهي في اليأسِ
كانت معاول الحب تحفر داخل قلبي لترسم وشما
يذكّرني بماضٍ احن إليه دون شعور
هكذا وأنا أدخل ( فروكنر بارك )*
وأرى التماثيل على طول شارعه الطويل
الشارع الذي يفضي الى قلعة مهجورة وجبل ذليل ،
جبلٌ أذله الزمن الغابر وحوله الى رخام صلد .
التماثيل تقف مبتسمة وهي تلوحُ براحتيها الحاملة للورد
التماثيل تمسك نفسها بنفسها
وتنجب تماثيلا اخرى بوجوه مختلفة
وجوه تنتسب الى أزمنة بيضاء عالية الخلق
والحنان يلوح من قلوب لامرئية
التماثيل تحلم في سرها وهي مستلقية في قيظ الصيف
تلبس وتتعرى على دكاتها بحياء مطلق
في الشتاء ترتدي الثلج ثيابا مثل عروس في ليلتها الاولى
التماثيل رجال ونساء ، شيوخ وعجائز ،
اطفال جاء للتو من الارض الى الارض
بإنتظار الفجر حين تخرج صباحاته باردة دون رياء
التماثيل تكوّن ملحمة انسانية خالدة
التماثيل المصنوعة من الرخام
لا تدخلها بكتريا التفسخ
ولا غبار الزمن المثقل بالألم ،
التماثيل سكان الارض الذين لا ينال منهم الموت
ولا يخضعون لحساب القبر
وحدهم يتنفسون الحب
مع عشاقٍ متجددين كما يتجدد الورد في الحدائق
من حولهم بحيرات عذبة
تشعرهم بطمأنية الزمن القادم
التماثيل عجائب الفن ،
وعجائب الانسان في أرضنا المحملة بالوجع ..
* فروكنر بارك : حديقة التماثيل في العاصمة اوسلو ، وتعد كأكبر عمل نحتي ملحمي في العالم . قام به النحات النرويجي غوستاف فيجلان بين عامي 1920 – 1943 . كان البارك في القرن الثامن عشر عبارة عن حديقة رومانسية ومنزل لعائلة مالك الارض واسمه فروكنر مانور ، وفي عام 1896 أشترت الارض بلدية اوسلو التي كانت تسمى في السابق كريستيانيا وحولتها الى منتجع سياحي تحيط بتماثيله البحيرات والجسور مع الابقاء على منزل عائلة المالك الاول ..