صَيْحَةُ المُتَشرِّد
صبري هاشم
صَيْحَةُ المُتَشرِّد
***
عصفتْ بالروحِ هُنيهةٌ
حين ارتَختْ تحتَ أَجْنِحَتي ريحٌ
وأنا أَنْدبُ جُرحاً في جسدٍ غريبٍ باتَ لا يتهذّبُ
الشمسُ على رأسيَ تَصبُّ مِن فجورِها ما يُغضِبُ آلهةً
ثم تُحاولُ ـ بعدَ سويّةٍ ـ أنْ تُبديَ ودّاً
ليس مِن طِباعِها إنّما تجتهدُ
وأنا في ممرّاتِ أحزاني أتوه وأَنْشغلُ
أُخفي بثيابِ الهمِّ رائحةَ اغترابي
وأُظللُ خطوةً تَعَثّرتْ ذاتَ يومٍ في طَريق
هنالكَ
على ظهرِ كثيبٍ مِن لوعةِ الصّحراءِ ظلَّ يكتملُ
أَعلنتُ الوداعَ الأخيرَ
وبأجنحةِ المُفارقِ
ركبتُ نحو الرّحيلِ ريحَ صَبابتي
هنالكَ
حيثُ تلقّفتني المسافاتُ
وسماواتٌ لا تحتملُ مِن الألوانِ لوناً
ولا تقفُ عندَ قرارٍ ولو غادرتْ زرقةٌ كلَّ البحارِ
هنالكَ
حيثُ يكونُ مِن اليسرِ أنْ تُطلقَ
تحتَ قدميكَ لوثةً
وتجعلَ مِن روحِكَ الحائرِ يُراقصُ الغيبَ
ويستجلبُ لحظةً مِن لغةِ الجنونِ
وحيثُ ترتابُ مِن انفلاتِكَ النسورُ
وتَسعى نحوَكَ مُسالِمةً على أجفانِ الهواءِ
هنالكَ
حيثُ تُلغى الوسائطُ
إلاّ ما سيّرتْها إليكَ آلهةٌ مُحتربة
صَعّدتَ مِن حُريّتِكَ وصرتَ إلى الضّياعِ أقربَ
هي الحريّةُ أقربُ للضياعِ
***
" ... وبعدَ حينٍ ستنطفئُ في عزِّ الهجيرةِ شمسٌ
ثم يَنْمو على طفافِها الظلامُ ... "
"... ظلامٌ .. ظلامٌ .. ظلام .. كلُّ شيءٍ يَسبحُ في الظلامِ ، وكأنَّ الأوقاتَ تأتي مِن ظلامٍ وتَذهبُ نحو الظلامِ . يا الله .. لقد سَئمنا الظلمَ والظلامَ ... "
" ... وأسوأُ الأقدارِ أنْ تولدَ بأرضٍ عليها يتكاثرُ الأوغادُ ويسودُها الظلمُ والأشرارُ والظلامُ ... "
***
سأتسكعُ الليلةَ على أبوابِ الحاناتِ
مثلَ ظلٍّ شريدٍ
أو مثلَ مجهولٍ نبيلٍ
أجمعُ ما تيسّرَ مِن أَعطياتٍ
وأحتسيَ مِن الأكؤسِ ما زَهِدَ بهِ الشّاربُ
ثم أخرجُ للملأِ وأعلنُ :
أنا ابنُكم الضّائعُ
أعودُ ثانيةً ضمنَ طائفةٍ مِن أطيارٍ
حَلّقت بي بعدَ أنْ تحطّمتْ في الأعماقِ سَفينتي
فلا تُنكروني
وأصرخُ مرّةً أخرى :
لا تُنكروني
لكنّكُم أَدْلَجْتُم في غيبوبةٍ أبديةٍ
وتَبَددَ صوتيَ في الآفاقِ
***
" ... ها قد أخطأتِ السّبيلَ رواحلُكَ
تلبدتْ بالأسرارِ سماؤك
واخْتَلَجتْ خجولةً تلكَ الأنجمُ
فلا ترمِ خطوَكَ في فراغٍ
ولا ترسمْ للأزاهيرِ مصيراً بعيداً عن لوعةِ الماءِ..."
***
سأجمعُ في صُرّةٍ ما تَبَعْثَرَ مِن أَشْيائي
أَرْمي على كَتِفي ثقلَ الأيامِ وأَمضيَ
أنا السائحُ في النّسيانِ
ففي هذهِ المرّةِ لَنْ أسْتدعيَ طفلاً مِن أطفالِ الشّوارعِ يُعينني على اصطيادِ فراشةِ الذّاكرةِ
لَنْ أفعلَ هذا
فالأطفالُ جهّزوا ليَ سفينةً للرّحيلِ وسأرتحلُ
جميعاً سنرتحلُ
قلتُ لَهُم سأتركُ الذاكرةَ ها هُنا وأرتحلُ
الرّيحُ مؤاتيةٌ وقد نُشِرتْ القُلوعُ
ونحن أيُّها الأطفالُ في سفرٍ