الرئيسية » » في متاهة الشك...واليقين | برهان شاوي

في متاهة الشك...واليقين | برهان شاوي

Written By Unknown on السبت، 4 يوليو 2015 | 3:18 ص



في متاهة الشك...واليقين
ابتسمت له بحنان..وقالت بصوت دافئ ومتعاطف:
- أنت قلق يا بني.. قلق جدا ..
فقال بنبرة يائسة:
- أنا مليء بالشك..
فانبرت الراهبة الشابة سائلة:
- هل تشك..؟
- نعم..
فسألت بحرارة:
- بمن تشك..؟ إياك أن تقول بأنك تشك بوجود الله !
نظر إليها..تاه للحظات في جمالها المثير..ثم عاد لنفسه قال لها:
- لا أدري.. ربما.. إنني أجد صعوبة في التوفيق بين صفات العدل والخير والرحمة التي هي من صفات الله، وبين الألم والتعاسة والشر الذي يملأ العالم ويجعل الوجود البشري جحيما، فإذا كان الله عادلا فلماذا هذا الظلم والمآسي واللاعدالة والأوبئة والأمراض تملأ الأرض..وكل هذا القتل والذبح والسبي الذي يتم بإسمه..كل هذه الحروب التي تُشن بإسمه... لماذا يسيطر الأشرار والمجرمون والطغاة والمشعوذون والقتلة الأغبياء على هذه الأرض..؟
نظرت الراهبة المسنة إليه بحنان وقالت بنبرة أمومية:
- ربما يسيطرون عليها ولكن لا يملكونها يا بني ..
رد هو بنبرة مشوبة بغضب خفي:
- لا يهم.. يسيطرون عليها أو يملكونها.. المهم من يسيطر عليها يملكها ولو إلى حين..وليس هذا هو مبعث شكي فقط..
ابتسمت له بحنان وسألته:
- ماذا يثقل عليك إيضا يا بني..؟
- إذا كان كل شيء مقدرا على الإنسان، ومكتوبا في اللوح قبل ولادته كما تؤكد الأديان، فهذا يعني أن المجرم ليس مجرما وإنما الله أراد له وكتب عليه أن يكون مجرما..
فقالت الراهبة المسنة بحزن:
- إنك تذهب بعيدا في شكك يا بني.. أنت لست أول ولا آخر من أثار ويثير مثل هذه الأسئلة..قبلك أناس عذبهم هذا الشك،وتحملوا ألوان العذاب بسببه..
- أحيانا أفكر بالأديان وما تصف به الجنة.. ما معنى وجود أنهار من الحليب والعسل والخمر في الجنة كما تقول الأديان السماوية..؟
فسألته وكأنها تريد أن تستمع لكل ما يثقل على روحه:
- ماذا لديك بعد يا بني..؟
- أحيانا أسأل نفسي أسئلة ساذجة وغريبة لكنها مهمة بالنسبة لي..،أسأل نفسي أحيانا: هل في الجنة ناطحات سحاب..؟ سيارات..؟ طائرات..؟ قطارات..؟ دور سينما..؟ كمبيوترات..؟ مقاهٍ وكازينوهات..؟ أنا لا أستطيع العيش طول عمري في حديقة..! أستطيع أن أتجول في الحديقة أو الغابة لساعة أو ساعتين، وربما يذهب المرء لمنتجع بين الأشجار لمدة أيام لكن ليس لسنوات بل وطول العمر وإلى الأبد..!! الجنة لأبناء الريف وعشاق الطبيعة، وأنا لست مهوسا بالطبيعة، أنا أحب المدن الكبرى، الجنة التي تصفها الكتب المقدسة ستكون جحيما بالنسبة لي.. إنها دار للعجزة والعاطلين عن العمل.. لا أستطيع أن أتصور نفسي عاطلا عن العمل..الجنة التي تصفها الأديان أشبه بالماخور لكنها ليس للعاهرات وإنما للحوريات..ومقاهيها..الآرائك المتقابلة أشبه بمقهى قروي..أن لا أريد أن آكل وأشرب وأنكح فقط..
- وماذا لديك بعد من شكوك يا بني..؟
- هل توجد جحيم حقا..؟
فتدخلت الراهبة الشابة وقالت بخشوع:
- الجحيم هي نقيض الجنة..
- أعتقد أن الله عادل ورحمن ورحيم وغفور ورؤوف، ولا أعتقد أنه يعاقب البشر بالجحيم التي وصفتها الأديان..ثم إذا كان قد كتب على الإنسان كل أفعاله في اللوح المسطور فلماذا يعذب المخطئين..؟ أليس هو من قدر لهم ذلك؟ هذا ليس عدلا.. ولا أعتقد أن الله يظلم البشر الضعفاء الذين قضى بأن يكونوا خطاة..
نظرت الراهبة الشابة إليه بحنان وقالت له:
- ياه.. كم من الآلام والأفكار الثقيلة تنوء بها روحك يا بني..!
- أنا لست الوحيد الذي يفكر هكذا، قبلي كان الكثير من الناس والكتاب والفلاسفة ورجالات العلم والشريعة قد طرحوا مثل هذه الأسئلة والشكوك..أنتما قلتما ذلك قبل قليل..
قالت الراهبة المسنة بصوت حزين:
- نعم صحيح..نعرف ذلك..لكن أتدري أن هذه الشكوك تطهر الروح أحيانا..
- أحيانا ..؟
- نعم.. أحيانا .. لأن صاحبها يجد نفسه في وادي الظلمات، وهذه الأفكار والشكوك المعذبة هي مثل المصباح الذي ينير الدرب في ذلك الوادي المهول..الشك كثير ا ما يقود إلى الإيمان..
- هذا إذا ما اطمأن الإنسان وكشف السر..!
فبادرت الراهبة المسنة بالقول:
- لا أحد يمكنه كشف السر يا بني..
- كيف إذن يمكن للشك أن يقود إلى الإيمان..؟
صمتت الراهبة المسنة للحظات..وقالت وكأنها تتحدث مع نفسها:
- الشك عذاب.. وهذا العذاب يطهر الروح.. يزيل عنها ما يتداخل معها من خبث وأوشال ويكشف عن معدنها الأصيل..الله يحب جميع مخلوقاته..الوديعة ، المسالمة، المؤمنة به إيمانا فطريا، وكذلك يحب مخلوقاته الجامحة، المتمردة، المشاكسة له بشكها فيه،إنه الأب لمخلوقاته وهو ينظر بعين الرأفة والحنو حتى لأبنائه الضالين والمشاكسين..المحبة والرحمة والحنان والمغفرة والعفو هي من تجليات الربوبية..
صمت هو مفكرا بما قالت للحظات، ثم قال:
- لا أدري.. يصعب علي الإيمان بوجود الجنة والجحيم..أين هما يا ترى؟ أين ستكونان..؟ هل هما في كوننا الموجود هذا..؟ الأديان تقول إن العالم سينتهي، ومعظم العلماء يقولون إن الكون سينتهي، بعض العلماء يتحدثون عن نهاية الكون وإنطفاء الشموس وانهيار المجرات في ثقب أسود والعودة إلى العدم، إلى اللاشيء، والأديان تتحدث عن الشيء نفسه لكن بلغة أخرى.. وبعدها يفترض أن يبدأ يوم الحساب، أليس كذلك..؟
نظرت الراهبتان بصمت لبعضهما ولم تجيبا، فاستمر هو بالحديث:
- هذا يعني أنه لو كان هناك حساب، وجزاء وعقاب، فهذا يعني ذهاب الأخيار إلى الجنة والخطاة إلى الجحيم، حسب الأديان..وهذا ما لا يتصوره العقل، فإذا عدنا إلى العدم فكيف يمكننا أن ننهض من الأجداث للحساب..؟ وإذا افترضنا أن هذاسيكون، فهذا يعني يجب وجود كون آخر فيه الجنة والجحيم.. كون خارج كوننا هذا، وبما أن كوننا يذهب إلى الزوال وإلى العدم فمن أين سيأتون بنا للحساب..؟ نحن وكوننا هذا، وفق تقارير العلماء، سنذهب إلى العدم.. هذا ربما سيقود لمسألة تخطئة النظريات العلمية بموت الكون وإندلاقه في ثقب أسود والذوبان في العدم...!! بل وربما تخطئة التصورات الدينية حول نهاية العالم والكون..؟ فلربما الأمر له علاقة بنهاية الحياة على الأرض فقط، لأن كوكبا مثل الزهرة أو المريخ أو أي كوكب من كواكب منظومتنا الشمسية، وفق المعلومات العلمية عن جغرافيته ومناخه، هي الجحيم بعينه، لكن ليس هناك مكان يشبه الجنة بين الكواكب التي نعرفها..
نظرت الراهبة المسنة له بحنان تجلى في نبرات صوتها أيضا وقالت:
- لماذا تعذب نفسك هكذا يا بني..؟
- أريد أن أرتاح.. شكي يعذبني.. روحي وعقلي ينوءان تحت ثقله..
تدخلت الراهبة الشابة وقالت بحنان:
- للأديان أساطيرها لكن للعلم أيضا أساطيره ..لا تعذب نفسك هكذا..
- أنا أريد أن أوؤمن وأرتاح .. أوؤمن بأي شيء يخلصني من الشك..
نظرت الراهبة المسنة إليه للحظات ثم قالت بمودة:
- وهل تعتقد أن هؤلاء الذين يؤمنون، الذين تراهم حولك، كلهم وصلوا إلى الإيمان بعد أن طرحوا مثل هذه الأسئلة يا بني..؟ لا.. الكثير منهم لا يمتلك شجاعة طرح السؤال، بل ولا يمتلك شجاعة الشك.. الكثير منهم يخاف طرح الأسئلة بل يتهربون ممن يطرح الأسئلة، وبعضهم يحاول معاقبة من يطرح الأسئلة ويشكك في الأشياء.. لذلك أن الشك يسمو بالعقل والروح ويطهرها.. والذين يطرحون الأسئلة في الله وعن الله هم أقرب الناس إليه.. لا تحزن يابني.. ستجد الدرب وحدك..
- متى..؟ وأين..؟ وكيف..؟
نظرتا لبعضهما وابتسمتا وكأنهما اتفقتا على شيء. قامت الراهبة الشابة واستدارتا خارجتين من الغرفة. كان هو مندهشا، فهو لم يكمل كل ما كان يريد أن يقوله لهما، كما أنهما لم يجيبا عن أسئلة كان بوده أن يطرحها عليهما، حول وجودهما، ومن هما أصلا..؟
حينما أغلقتا الباب، نهض هو مسرعا خلفهما ليطلب منهما العودة. فتح الباب ونظر في جانبي الممر فلم يجد أثرا لأي شيء.
من حوارات متاهتي الثانية (متـاهـة حـــــواء)
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.